سلة التسوق الخاصة بك فارغة الآن.
”وقد رأيت أناسًا يُبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه، ولا يستغنون عما فيه من عناصر الإيمان والاعتقاد، التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يُجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس، لأنهم اصطنعوه اصطناعًا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل، فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية، يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة، في دورات مسلسلة تنحل كل دورة منها في نهايتها لتعود إلى التركيب في دورة جديدة، وهكذا دواليك .. ويطلبون منهم أن ينتظروا النعيم المقيم على هذه الأرض، متى صحت نبوءتهم عن زوال الطبقات الاجتماعية .. ولا يُكلف دين من الأديان أتباعه تصديقًا أغرب من هذا التصديق، ولا تسليمًا أتم من هذا التسليم!“
بهذه الكلمات في خواتيم مقدمة ”الفلسفة القرآنية“، بيَّن العقاد هدفه من وراء هذا التأليف الذي يعُد من مفاخره ومآثره، فقد انطلق يحاور الفلاسفة في رؤيتهم لبعض القضايا الاجتماعية والحياتية التي قدم الإسلام فيها تصورات كانت دومًا محط نقد الفلسفة المادية، ليُثبت من خلال محاوراته أن الدين لا يُصادم الفكر ولا يصطدم بالعقل، ولا يُعارضهما أو يُناقضهما أو يُناصبهما عداءً أو يقف حيالهما موقف خصام.
و”الفلسفة القرآنية” كتابٌ صغيرُ الحجم عظيمُ الفائدة في الفلسفة الروحية والاجتماعية لبعض الموضوعات التي وردت في القرآن الكريم، وهو وإن كان ظاهر عنوانه ورءوس موضوعاته أنها بعيدة عن التعليل التشريعي؛ إلا أن حقيقة معالجة الموضوعات التي وردت به تدخل في باب التعليل بصورة صريحة ومباشرة، إذ تعرّض العقاد فيه لبعض المسائل، مثل: أحكام المرأة، والزواج، والميراث، والرقّ، والعقوبات، والعبادات، وغيرها، فتكلم عن عِللها وحِكمتها العقلية، غيرَ أنّ العقاد تجاوز موضوعات التعليل التشريعي بالكلام عن فلسفة الخطاب القرآني فيما يتعلق بقضايا العلم والأخلاق والعقيدة، على أن كلامه في شأن تلك القضايا ككلامه في أحكام الشريعة التي وردت في القرآن؛ قد جاء مجملًا غير متعلق بالفروع.
وقد آثر مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر، أن يعتني بهذا الكتاب كبير القيمة، ويوسع من نطاق أثره بترجمته إلى اللغة الإنجليزية لأول مرة، لا دفاعًا عن الإسلام، ولا نفيًا لاتهام، ولكن استثارةً للهمم نحو التفكير واستنهاض العقول، وتأصيلًا لثقافة المعرفة والحوار، وتشجيعًا لعمليات المثاقفة الناضجة بين اللغة العربية وبقية لغات العالم.