منذ بدأت أول جلسة لي مع الشاعر محمد بن مبارك الشريدة ، بدأت استمع منه إلى عدد من قصائده . فقد كان سماعي عنه قبل أن أراه جيداً ولكن حصيلتي من أشعاره قليلة جداً ، بل لاتزيد على بضعة أبيات . وقد تفضل بإسماعي الكثير مما قال . وهو - والحمدلله - لايزال يتمتع بذاكرة ممتازة بحيث يستوعب كل ذلك الشعر ، إضافة إلى أشعار عدد كبير من شعر معاصريه من الشعراء .

كنت متعطشا إلى الاستماع إليه ، وكنت متيقنا من أنني سوف أجد في شعر هذا الرجل شيئا ذا قيمة أدبية في مجال الشعر النبطي . وقد كنت استمعت منه إلى قصائده قبل أن أری دیوانه «سبائك العسجد» حيث كان - آنذاك- قید الطبع . ولكن ما استمعت إليه منه كان يشمل قصائد أكثر مما ورد في الديوان المذكور ، وكانت جلساتي معه التي تكررت فيما بعد متعة للسمع ، ومؤشراً إلى كثير من أحوال الشعراء الذين عاصرهم ، وكانت له صلات جيدة مع كثيرين منهم ، وإن كانت له مع آخرين صلات أخرى يسودها التوتر بسبب ما أحس به هذا العدد القليل منهم من استغراب من شاعرين ناشئين هما صاحبنا هذا وصديقه وخليله بدر محمد العسكر الذي لايقل عنه شاعرية وحرصا على الإجادة ، لقد لاحظ هؤلاء الشعراء ، ولنقل القلة منهم ، التدفق الشعري الجميل عند هذا الثنائي ، كما لاحظوا إقبال الناس في الديوانيات التي يرتادونها على شعرهم وطلب سماعه ، مما يعني بروز نجمين جديدين واختفاء غيرهما ، وهذا ما أشعل جذوة التنافس وأدى إلى بروز نوع جديد من قصائد الشعر النبطي في الكويت . هذا النوع سوف نتحدث عنه بتفصيل كثير في كتابنا هذا ، غير أني أود أن أستبق ذلك فأوضح أن من أهم مالفت نظري فيما ألقاه علي الشاعر من شعره ، وما وجدته في ديوانه «سبائك العسجد» هو طول القصائد بما يتجاوز طول القصيدة النبطية المعتادة . مع سرد موضوعات تحتاج إلى الإطالة ، مما أطلق عليه محمد الشريدة نفسه اسم (الملحمة) كما جاء في عنوان إحدى قصائده الطويلة ، وسوف يعرف القارئ السبب في هذا الاتجاه ليس عند الشريدة ولكن عند صاحبه العسكر أيضا . وليس هذا السبب ببعيد مما ذكرت آنفا عن التنافس الشديد بين شعراء ذلك الزمان الذي برز فيه نجم هذين الشاعرين ؛ ذلك التنافس الذي أثاره بروزهما على ساحة الشعر النبطي ، واتساع شهرتهما ، ولم يكن أمامهما إلا الرد بهذه الطريقة فهما يعلمان أن من يثير الكثير من القيل والقال حولهما لا يستطيع أن يدخل الميدان من هذا الطريق فهما قد استعدا له کما سوف نرى في هذا الكتاب ، بينما كانت المجموعة المقابلة تعيش على أسلوب عرفته وسارت عليه ، ولم تجد منه فکاکا .

من ضمن الملاحم التي لفتت نظري تلك الملحمة التي سماها الشاعر محمد بن مبارك الشريدة «الملحمة العدنية» وهي ملحمة على خلاف الملاحم التي اطلعنا عليها فيما سبق عند بعض شعراء الفصحى . فهي ذات موضوع جديد على الملاحم السابقة ، إذ كانت تدور حول حكاية غزلية عاشها الشاعر أثناء سفرة من سفراته فصاغها في شعر لاندعي أنه يمثل الحقيقة التي ننتظره أن يعبر عنها بدقة متناهية ، فهو شاعر . والشاعر يستر الكثير مما يرغب في ألا يعرف الناس ما يُكنّ ، فيغطي الأحداث بأحداث ، أو يخرج عن الموضوع إلى موضوع آخر لكي يبعد بذلك عن القارئ القدرة على ربط أحداث القصيدة بحياة شاعرها الحقيقية . وذلك ما قصد إليه شاعرنا.

لقد جاءت «الملحمة العدنية» ملحمة بالفعل ، تتميز بتدرج الأحداث وبالرواية المتمكنة من الجزئيات التي تحيط بها ، وتتصف بصفة نادرة وهي الحرص على أن تكون على طولها من بحر واحد وقافية واحدة مستمرة من أولها إلى نهايتها.