إن الله تعالى قد شرع الشرائع، وأنزل الكتب السماوية وأرسل الرسل لهداية البشرية إلى ما فيه سعادتها وفلاحها وجعل الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، ورضيها للناس كافة في مختلف الأزمنة والأمكنة، لتكون دستوراً لحياتهم، ومنهاجاً لفلاحهم، وسبيلاً لسعادتهم في الدنيا والاخرة. لذلك جاءت الشريعة الإسلامية شاملة ومشتملة على أمور الحياة كافة، فهي تنظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بغيره من الأفراد والجماعات، كما تنظم علاقة الدول بعضها بالبعض الآخر سلماً أو حرباً، وذلك بما تضمنه دستور هذه الأمة من قواعد عامة ومبادئ أساسية اتسمت بالعموم والشمول والمرونة، لتكون وافية بما تحتاج إليه الإنسانية في مختلف العصور ولمختلف الفئات والأمكنة، ومن سبل كمال هذه الشريعة المحفوظة وتمامها أنها شملت بأحكامها ما يستجد للناس من أمور معاشهم وتعاملاتهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: النصوصُ محيطةٌ بجميع أحكام العبادِ، فقد بيَّن الله تعالى بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جميعَ ما أمر الله به وجميعَ ما نهى عنه، وجميعَ ما أحلَّه وجميعَ ما حرَّمَه، وبهذا أكملَ الدينَ، ولكن قد يَقْصُر فَهْمُ كثيرٍ من الناس عن فَهْمِ ما دلَّت عليه النصوصُ، والناسُ متفاوتون في الأفهام. لا جرم أن من المسائل الجديرة بالبحث والتحقيق مسألة التلفيق، لأن هذا الموضوع يتعلق بشؤون الناس الشرعية فلا بد من إجلاء القول فيه حتى يكون المكلف على بينة من أمره. فالتلفيق مسألة يتنازعها مقصدان من مقاصد الشريعة؛ الأول: التيسير ورفع الحرج، والثاني: حفظ الدين، فكان لا بد من التوفيق بينهما دون إفراط ولا تفريط، فالقول بمنع التلفيق يلزم منه ضيقٌ وحرجٌ لا يناسب روح الشريعة. وإطلاق القول بجواز التلفيق يستلزم انفراط نظام الشريعة. ولعدم وجود دليل خاص بجواز أو عدمه فكان لزاماً عليَّ استقراء الأدلّة التي تثبت حجيَّة من يؤيِّد التلفيق ومَن يعارضه، وأيضاً من يرى التفصيل في ذلك.